الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
فهذه الطريقة بينة في مناظرة أهل الكتاب، وأما إن كان المخاطب لا يقر بنبوة نبي من الأنبياء؛ لا موسى، ولا عيسى، ولا غيرهما ، فللمخاطبة طرق: منها: أن نسلك في الكلام بين أهل الملل وغيرهم ـ من المشركين والصابئين والمتفلسفة والبراهمة وغيرهم ـ نظير الكلام بين المسلمين وأهل الكتاب. فنقول: من المعلوم لكل عاقل ـ له أدنى نظر وتأمل ـ أن أهل الملل أكمل في العلوم النافعة، والأعمال الصالحة ممن ليس من أهل الملل، فما من خير يوجد عند غير المسلمين من أهل الملل، إلا عند المسلمين ما هو أكمل منه، وعند أهل الملل ما لا يوجد عند غيرهم، وذلك أن العلوم والأعمال نوعان: نوع يحصل بالعقل؛ كعلم الحساب والطب، وكالصناعة من الحياكة والخياطة والتجارة ونحو ذلك، فهذه الأمور عند أهل الملل كما هي عند غيرهم بل هم فيها أكمل، فإن علوم المتفلسفة ـ من علوم المنطق والطبيعة والهيئة، وغير ذلك ـ من متفلسفة الهند واليونان، وعلوم فارس والروم لما صارت إلى المسلمين هذبوها ونقحوها، لكمال عقولهم، وحسن ألسنتهم، وكان / كلامهم فيها أتم وأجمع وأبين، وهذا يعرفه كل عاقل وفاضل، وأما ما لا يعلم بمجرد العقل كالعلوم الإلهية، وعلوم الديانات، فهذه مختصة بأهل الملل، وهذه منها ما يمكن أن يقام عليه أدلة عقلية، فالآيات الكتابية مستنبطة من الرسالة. فالرسل هدوا الخلق وأرشدوهم إلى دلالة العقول عليها، فهي عقلية شرعية، فليس لمخالف الرسول أن يقول: هذه لم تعلم إلا بخبرهم، فإثبات خبرهم بها دور، بل يقال: بعدالتهم وإرشادهم، وتبيينهم للمعقول، صارت معلومة بالعقل والأمثال المضروبة، والأقيسة العقلية. وبهذه العلوم يعلم صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وبطلان قول من خالفهم. النوع الثاني: ما لا يعلم إلا بخبر الرسل، فهذا يعلم بوجوه: منها: اتفاق الرسل على الإخبار به من غير تواطؤ ولا اتفاق بينهم، فإن المخبر إما أن يكون صادقًا خبره مطابقًا لمخبره، وإما ألا يكون، وإذا لم يكن خبره مطابقًا لمخبره، فإما أن يكون متعمدًا للكذب ،وإما أن يكون مخطئًا، فإذا قدر عدم الخطأ والتعمد، كان خبره صدقًا لا محالة. ومعلوم أنه إذا أخبر واحد عن علوم طويلة فيها تفاصيل كثيرة، لا يمكن في العادة خطؤهم، وأخبر غيره قبل ذلك مع الجزم بأنهما لم يتواطآ، ولا يمكن أن يقال إنه يمكن الكذب في مثل ذلك، أفاد خبرهما العلم، وإن لم يعلم /حالهما، فلو ناجى رجلا بحضرة رجال وحدث بحديث طويل فيه أسرار تتعلق به في رجل بتلك الأمور الأسرار، ثم جاء آخر قد علمنا أنه لم يتفق مع المخبر الأول، فأخبر عن تلك المناجاة والأسرار مثلما أخبر به الأول، جزمنا قطعًا بصدقهما. ومعلوم أن مـوسى أخبــر بما أخــبر به قبل أن يبعث محمـد صلى الله عليه وسلم، وقـبل أن يبعث المسيح . ومعلوم ـ أيضًا ـ لكل من كان عالمًا بحال محمد صلى الله عليه وسلم، أنه نشأ بين قوم أميين، لا يقرؤون كتابًا ولا يعلمون علوم الأنبياء، وأنه لم يكن عندهم من يعلم ما في التوراة والإنجيل، ونبوة الأنبياء. وقد أخبر محمد صلى الله عليه وسلم من توحيد اللّه وصفاته، وأسمائه وملائكته وعرشه وكرسيه، وأنبيائه ورسله، وأخبارهم وأخبار مكذبيهم، بنظير ما يوجد في كتب الأنبياء، من التوراة وغيرها. فمن تدبر التوراة والقرآن، علم أنهما جميعًا يخرجان من مشكاة واحدة، كما ذكر ذلك النجاشي، وكما قال ورقة بن نوفل: هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى. ولهذا قرن اللّه ـ تعالى ـ بين التوراة والقرآن في مثل هذا في قوله: فهذه الطريقة، كل من علم ما جاء به موسى والنبيون قبله وبعده، وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، علم علمًا يقينًا أنهم كلهم مخبرون عن اللّه، صادقون في الإخبار، وأنه يمتنع ـ والعياذ بالله ـ خلاف الصدق من خطأ وكذب. ومن الطرق: الطرق الواضحة القاطعة المعلومة إلى قيام الساعة بالتواتر من أحوال أتباع الأنبياء، وأحوال من كذبهم وكفر بهم، حال نوح وقومه، وهود وقومه، وصالح وقومه، وحال إبراهيم وقومه، وحال موسى وفرعون، وحال محمد صلى الله عليه وسلم وقومه. وهذا الطريق قد بينها اللّه في غير موضع من كتابه كقوله: : وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟} وقال: فبين أنه تارك آثار القوم المعذبين للمشاهدة، ويستدل بذلك على عقوبة اللّه لهم، وقال تعالى: أحدهما: ما يعاين ويعقل بالقلوب. والثاني: ما يسمع، فإنه قد تواتر عند كل أحد حال الأنبياء، ومصدقهم ومكذبهم، وعاينوا من آثارهم ما دل على أنه ـ سبحانه ـ عاقب مكذبهم وانتقم منهم، وأنهم كانوا على الحق الذي يحبه ويرضاه، وأن من كذبهم كان على الباطل الذي يغضب اللّه على أهله، وأن طاعة الرسل طاعة للّه، ومعصيتهم معصية للّه. ومن الطرق أيضًا: أن يعلم ما تواتر من معجزاتهم الباهرة، وآياتهم القاهرة، وأنه يمتنع أن تكون المعجزة على يد مدعي النبوة وهو كذاب، من غير تناقض، ولا تعارض، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع. / ومن الطرق: أن الرسل جاؤوا من العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، بما هو معلوم عند كل عاقل لبيب، ولا ينكره إلا جاهل غاو. وهذه الفتيا لا تسع البسط الكثير، فإذا تبين صدقهم وجب التصديق في كل ما أخبروا به، ووجب الحكم بكفر من آمن ببعض، وكفر ببعض. واللّه ـ سبحانه ـ وتعالى ـ أعلم، والحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه أجمعين.
/ فأجاب ـ رضي اللَّه عَنْهُ: الحمد للّه رب العالمين، روح الآدمي مخلوقة مبدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة، وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين، مثل محمد بن نصر المروزي، الإمام المشهور، الذي هو أعلم أهل زمانه بالإجماع والاختلاف، أو من أعلمهم. وكذلك أبو محمد بن قتيبة، قال في كتاب [اللقط] لما تكلم على خلق الروح قال: النَّسَم: الأرواح. قال: وأجمع الناس على أن اللّه خالق الجثة، / وبارئ النسمة، أي: خالق الروح. وقال أبو إسحاق بن شاقلا فيما أجاب به في هذه المسألة: سألت رحمك اللّه عن الروح مخلوقة أو غير مخلوقة، قال: هذا مما لا يشك فيه من وفق للصواب، إلى أن قال: والروح من الأشياء المخلوقة، وقد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء والمشائخ، وردوا على من يزعم أنها غير مخلوقة. وصنف الحافظ أبو عبد اللّه بن مَنْدَه في ذلك كتابًا كبيرًا في [الروح والنفس]، وذكر فيه من الأحاديث والآثار شيئًا كثيرًا، وقبله الإمام محمد بن نصر المروزي وغيره، والشيخ أبو يعقوب الخراز، وأبو يعقوب النهرجوري، والقاضي أبو يعلى، وغيرهم؛ وقد نص على ذلك الأئمة الكبار، واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في روح عيسى ابن مريم، لا سيما في روح غيره ،كما ذكره أحمد في كتابه في [الرد على الزنادقة والجهمية] فقال في أوله: الحمد للّه الذي جعل في كل زمان فَتْرَة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب اللّه الموتى، ويبصرون بنور اللّه أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب اللّه تحريف الغالين؛ وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، يقولون على اللّه، وفي اللّه، وفي كتاب / اللّه بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ باللّه من فتن المضلين، وتكلم على ما يقال: إنه متعارض من القرآن إلى أن قال: وكذلك الجهم وشيعته، دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث، وأضلوا بشرًا كثيرًا، فكان مما بلغنا من أمر الجهم ـ عدو اللّه ـ أنه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام، كان أكثر كلامه في اللّه، فلقى أناسًا من المشركين يقال لهم [السمنية[فعرفوا الجهم، فقالوا له: نكلمك، فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك. فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا: ألست تزعم أن لك إلهًا؟ قال الجهم: بلى. فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا. قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا.قالوا: فهل شممت له رائحة؟ قال: لا. قالوا له: فوجدت له مَجَسا؟ قال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم، فلم يدر من يعبد أربعين يومًا، ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح اللّه، من ذاته، فإذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه، فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما شاء، وينهى عما شاء، وهو روح غائب عن الأبصار. فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحًا ؟ قال بلى. قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا. قال: فهل سمعت / كلامه؟ قال: لا. قال: فوجدت له حسًا ومَجَسّا؟ قال: لا. قال: كذلك اللّه، لا يرى له وجه، و لا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان. وساق الإمام أحمد الكلام في [القرآن] و[الرؤية] وغير ذلك، إلى أن قال: ثم إن الجهم ادعى أمرًا، فقال: إنا وجدنا آية في كتاب اللّه تدل على القرآن أنه مخلوق، فقلنا: أي آية؟ قال: قول اللّه: فقلنا: إن اللّه منعك الفهم في القرآن، عيسى تجرى عليه ألفاظ لا تجرى على القرآن؛ لأنه يسميه مولودًا، وطفلًا، وصبيًا، وغلامًا، يأكل ويشرب، وهو مخاطب بالأمر والنهي، يجري عليه الوعد والوعيد، ثم هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم، ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى، هل سمعتم اللّه يقول في القرآن ما قال في عيسى ؟ ولكن المعنى في قول اللّه: وكذب النصارى والجهمية على اللّه في أمر عيسى، وذلك أن الجهمية قالوا: عيسى روح اللّه وكلمته، إلا أن الكلمة مخلوقة، وقالت النصارى: / عيسى روح اللّه من ذات اللّه، وكلمة اللّه من ذات اللّه، كما يقال: إن هذه الخرقة من هذا الثوب. وقلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان، وليس هو الكلمة. قال: وقول اللّه: وقال الشيخ أبو سعيد الخرازـ أحد أكابر المشائخ الأئمة من أقران الجنيد، فيما صنفه ـ في أن الأرواح مخلوقة، وقد احتج بأمور منها: لو لم تكن مخلوقة لما أقرت بالربوبية، وقد قال لهم حين أخذ الميثاق ـ وهم أرواح في أشباح؛ كالذر ـ: /قال: ولأنه لو كان الروح غير مخلوق ما دخلت النار، ولأنها لو كانت غير مخلوقة لما حجبت عن اللّه، ولا غيبت في البدن، ولا ملكها ملك الموت، ولما كانت صورة توصف؛ ولأنها لو لم تكن مخلوقة لم تحاسب ولم تعذب، ولم تتعبد ولم تخف، ولم ترج. ولأن أرواح المؤمنين تتلألأ وأرواح الكفار سود مثل الحمم. وقال صلى الله عليه وسلم: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ترتع في الجنة، وتأوى في فناء العرش)، وأرواح الكفار في برهوت [بئر عميقة بحضرموت لا يستطاع النزول إلى قعرها]. وقال الشيخ أبو يعقوب النهرجوري: هذه الأرواح من أمر اللّه مخلوقة .خلقها اللّه من الملكوت، كما خلق آدم من التراب، وكل عبد نسب روحه إلى ذات اللّه أخرجه ذلك إلى التعطيل، والذين نسبوا الأرواح إلى ذات اللّه هم أهل الحلول الخارجون إلى الإباحة، وقالوا: إذا صفت أرواحنا من أكدار نفوسنا فقد اتصلنا، وصرنا أحرارًا، ووضعت عنا العبودية، وأبيح لنا كل شيء من اللذات من النساء، والأموال وغير ذلك. وهم زنادقة هذه الأمة وذكر عدة مقالات لها وللزنادقة . قلت: واعلم أن القائلين بقدم الروح صنفان: صنف من الصابئة الفلاسفة، يقولون: هي قديمة أزلية لكن ليست من / ذات الرب، كما يقولون ذلك في العقول، والنفوس الفلكية، ويزعم من دخل من أهل الملل فيهم أنها هي الملائكة. وصنف من زنادقة هذه الأمة وضلالها ـ من المتصوفة والمتكلمة والمحدثة ـ يزعمون أنها من ذات اللّه، وهؤلاء أشرُّ قولًا من أولئك، وهؤلاء جعلوا الآدمي نصفين: نصف لاهوت، وهو روحه، ونصف ناسوت، وهو جسده، نصفه رب ونصفه عبد. وقد كفَّر اللّه النصارى بنحو من هذا القول في المسيح، فكيف بمن يعم ذلك في كل أحد ؟ حتى في فرعون، وهامان، وقارون، وكل ما دل على أن الإنسان عبد مخلوق مربوب، وأن اللّه ربه وخالقه ومالكه وإلهه، فهو يدل على أن روحه مخلوقة . فإن الإنسان عبارة عن البدن والروح معًا، بل هو بالروح أخص منه بالبدن، وإنما البدن مطية للروح،كما قال أبو الدرداء: إنما بدني مطيتي، فإن رفقت بها بلغتني، وإن لم أرفق بها لم تبلغني.وقد رواه ابن منده وغيره عن ابن عباس قال: لا تزال الخصومة يوم القيامة بين الخلق حتى تختصم الروح والبدن، فتقول الروح للبدن: أنت عملت السيئات، فيقول البدن للروح: أنت أمرتني، فيبعث اللّه ملكًا يقضى بينهما، فيقول: إنما مثلكما كمثل مُقْعَد وأعمى دخلاً بستانًا، فرأى المقعد فيه ثمرًا معلقًا، فقال للأعمى: إني أرى ثمرًا، ولكن / لا أستطيع النهوض إليه، وقال الأعمى: لكني أستطيع النهوض إليه ولكني لا أراه. فقال له المقعد: تعال، فاحملني حتى أقطفه، فحمله وجعل يأمره فيسير به إلى حيث يشاء فقطع الثمر. قال: الملك: فعلى أيهما العقوبة؟ فقالا:عليهما جميعًا قال: فكذلك أنتما. وأيضًا، فقد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الأرواح تقبض، وتنعم وتعذب، ويقال لها: اخرجي أيتها الروح الطيبة ،كانت في الجسد الطيب، اخرجي أيتها الروح الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، ويقال للأولى: أبشري بَروْح ورَيْحان، ويقال للثانية: أبشري بحَمِيم وغَسَّاق وآخر من شكله أزواج، وأن أرواح المؤمنين تعرج إلى السماء، وأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء. وفي صحيح مسلم عن عبد اللّه بن شَقِيق عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ قال: (إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها)، قال حماد: فذكر من طيب ريحها وذكر المسك؛ قال: (فيقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى اللّه عليك، وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه، ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل)، قال: (وإن الكافر إذا خرجت روحه)، قال حماد: وذكر من نتنها وذكر لعنًا، (فيقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض، قال: فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل). قال أبو هريرة ـ رضي اللّه عنه: فلما ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم النتن رد على أنفه ريطة كانت عليه. / وفي حديث المعراج الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى آدم، وأرواح بنيه عن يمينه وشماله، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (فلما علونا السماء فإذا رجل عن يمينه أسْوِدَة، وعن شماله أسودة)، قال: (فإذا نظر قِبَل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى)، قال: (مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح)، قال: (قلت: يا جبريل، من هذا ؟ قال: هذا آدم صلى الله عليه وسلم ،وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى). [والأسودة جمع سواد، وتجمع على أساود، وهي الجماعات المتفرقة، وقيل: هي جمع لـ (سواد)، وهو الشخص، كذلك؛ لأنه يرى من بعيد] وقد ثبت ـ أيضًا ـ أن أرواح المؤمنين والشهداء وغيرهم في الجنة، قال الإمام أحمد في رواية حنبل: أرواح الكفار في النار، وأرواح المؤمنين في الجنة، والأبدان في الدنيا، يعذب اللّه من يشاء، ويرحم بعفوه من يشاء. وقال عبد اللّه بن أحمد: سألت أبي عن أرواح الموتى: أتكون في أفنية قبورها؟ أم في حواصل طير؟ أم تموت كما تموت الأجساد؟ فقال: قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نَسَمَة المؤمن إذا مات طائر تعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه اللّه إلى جسده يوم يبعثه). وقد روى عن عبد اللّه بن عمرو أنه قال: أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر كالزَّرَازِير[جمع زرزور، وهو نوع من العصافير]، يتعارفون فيها ويرزقون من ثمرها، قال: وقال بعض الناس: أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، تأوى إلى قناديل في الجنة معلقة بالعرش. وقد روى مسلم في صحيحه عن مسروق قال: سألنا عبد اللّه ـ يعني ابن /مسعود ـ عن هذه الآية: وقد قال اللّه تعالى: فخاطبها بالرجوع إلى ربها، وبالدخول في عباده ودخول جنته، وهذا تصريح بأنها مربوبة. والنفس هنا هي الروح التي تقبض، وإنما تتنوع صفاتها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ـ لما ناموا عن صلاة الفجر في السفر ـ قال: (إن اللّه قبض أرواحنا حيث شاء، وردها حيث شاء) وفي رواية: (قبض أنفسنا حيث شاء)، وقال تعالى: وروى مسلم ـ أيضًا ـ عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (ألم تروا أن الإنسان إذا مات شَخَصَ بصره؟) قالوا: بلى. قال: (فكذلك حين يتبع بصره نفسه) فسماه تارة روحًا، وتارة نفسًا. وروى أحمد بن حنبل، وابن ماجه عن شداد بن أوس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر؛ فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيرًا، فإنه يُؤَمَّن على ما يقول أهل الميت). ودلائل هذا الأصل وبيان مسمى [الروح والنفس] وما فيه من الاشتراك كثير لا يحتمله هذا الجواب، وقد بسطناه في غير هذا الموضع. فقد بان بما ذكرناه أن من قال: إن أرواح بني آدم قديمة غير مخلوقة، فهو من أعظم أهل البدع الحلولية، الذين يجر قولهم إلى التعطيل، بجعل العبد هو الرب وغير ذلك من البدع الكاذبة المضلة. وأما قوله تعالى: أحدهما: أن الأمر في القرآن يراد به المصدر تارة، ويراد به المفعول تارة أخرى وهو المأمور به، كقوله تعالى: ومن قال من المتكلمين: إن الروح عرض قائم بالجسم، فليس عنده مصدر: أمر يأمر أمرًا . والقرآن إذا سمى أمر اللّه، فالقرآن كلام [اللّه] والكلام اسم مصدر: كَلَّم يُكَلِّم تكليمًا وكلامًا، وتَكَلَّم تَكَلمًا وكلامًا. فإذا سمى أمرًا بمعنى المصدر كان ذلك مطابقًا، لا سيما والكلام نوعان: أمر وخبر. / أما الأعيان القائمة بأنفسها فلا تسمى أمرًا لا بمعنى المفعول به وهو المأمور به كما سمى المسيح كلمة؛ لأنه مفعول بالكلمة، وكما يسمى المقدور قدرة والجنة رحمة، والمطر رحمة، في مثل قوله: وكذلك قال ابن قتيبة في [كتاب المشكل]: أقسام الروح، فقال: هي روح الأجسام التي يقبضها اللّه عند الممات، والروح جبريل، قال تعالى: والوجه الثاني: أن لفظة [من] في اللغة قد تكون لبيان الجنس، كقولهم: باب من حديد. وقد تكون لابتداء الغاية، كقولهم: خرجت من مكة، فقوله تعالى: فإذا كانت المسخرات والنعم من اللّه، ولم تكن بعض ذاته بل منه صدرت، لم يجب أن يكون معنى قوله في المسيح: وهذا الوجه يتوجه إذا كان الأمر هو الأمر الذي هو صفة من صفات اللّه، فهذان الجوابان كل منهما مستقل، ويمكن أن يجعل منهما جواب مركب، فيقال: قوله: وإنما نشأت الشبهة حيث ظن الظان أن الأمر صفة للّه قديمة، وأن روح /بني آدم بعض تلك الصفة، ولم تدل الآية على واحد من المقدمتين، واللّه ـ سبحانه ـ أعلم . وقد يجيء اسم الروح في القرآن بمعنى آخر، كقوله: وأما قول السائل: هل المفوض إلى اللّه أمر ذاتها أو صفاتها أو مجموعهما؟ فليس هذا من خصائص الكلام في الروح، بل لا يجوز لأحد أن يقفو ما ليس له به علم، ولا يقول على اللّه ما لا يعلم، قال تعالى: / وليس في الكتاب والسنة أن المسلمين نهوا أن يتكلموا في الروح بما دل عليه الكتاب والسنة، لا في ذاتها ولا في صفاتها، وأما الكلام بغير علم فذلك محرم في كل شيء، ولكن قد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض سكك المدينة، فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه فيسمعكم ما تكرهون، قال: فسألوه وهو متكئ على العسيب [العسيب: جريدة من النخل]، فأنزل اللّه هذه الآية. فبين بذلك أن ملك الرب عظيم، وجنوده، وصفة ذلك، وقدرته أعظم من أن يحيط به الآدميون، وهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلًا، فلا يظن من يدعى العلم أنه يمكنه أن يعلم كل ما سئل عنه ولا كل ما في الوجود، فما يعلم جنود ربك إلا هو.
|